
“ذكريات ترام الإسكندرية” هو مشروع وثائقي شخصي يتمحور حول خط ترام الإسكندرية، والذي يشكل منطقة تاريخية في مدينة الإسكندرية وما يزال قيد التشغيل منذ 120 عاماً، ولكنه يواجه اليوم خطر الزوال. ويُعد خط ترام الإسكندرية أول نظام نقل عام في أفريقيا، حيث تم إنشاؤه عام 1860 خلال فترة حكم الوالي محمد سعيد باشا، وهو يربط مركز المدينة مع المنطقة الغربية فيها مروراً بعدد من أشهر أحيائها العريقة مثل أحياء محرم بيك ومينا البصل وراس التين، ويمر بجوار قصر المنتزه والقاعة المصرية.
وشكل هذا المشروع الوثائقي نقطة تحول نوعية في مسيرتي المهنية، فقد قدمت من خلاله قصتي الأولى، وألهمني للانتقال من العمل في مجال الهندسة الكيميائية نحو احتراف التصوير.

هذه التجربة الإبداعية برزت بمثابة جسرٍ يربط بين الأجيال؛ فأنا واحدة من كثيرين فقدوا أجدادهم دون أن تتاح لهم الفرصة للجلوس والاستماع إليهم يتحدثون عن الماضي، لأنني عشت فترة طويلة خارج الوطن. ويكتسب هذا المشروع خصوصية كبيرة في حياتي، حيث يستند إلى شغفي بفهم ماضيّ الشخصي والتاريخ الغني لوطني الأم، فمشاعر الحنين أوقدت في نفسي الحماسة لإنجاز مشروعي الوثائقي حول خط الترام القديم في مدينة الإسكندرية.
أردتُ بهذا المشروع تصوير الحياة اليومية لركاب الترام، وخصوصاً اللحظات العابرة التي تجسد مفاهيم التأمل والابتعاد عن الهموم. واكتشفتُ داخل عربات الترام عالماً مصغراً يحاكي الواقع في مختلف أنحاء مصر، ويقدم رؤية حقيقية عن الحياة بجميع تفاصيلها، حيث يحمل كل راكب قصته الخاصة معه أثناء صعوده إلى العربات ونزوله منها.
تنتابنا مشاعر الحنين عندما نستحضر من ذكرياتنا أفضل قصص حياتنا، وهذا جوهر قصتي مع خط الترام القديم في مدينة الإسكندرية. فعند التفاعل مع الأشياء التي نحبها، تنبض الذاكرة لتوقد فينا أحاسيس تشابه مشاعر الوقوع في الحب. اصطحبتني عربات الترام في رحلة عبر الزمن، بتصميمها الذي يحاكي الصندوق، ومظهرها الخارجي المتهالك الذي تراكم عليه غبار السنين.
وقررت أن أدخل إحدى هذه “الصناديق” لاستكشاف عالمها الداخلي، فقد ظننتُ أنها تعكس العالم الخارجي بأدق تفاصيله. وبالفعل، تكاملت قصص الناس في الداخل مع بعضها بعضاً، وتجلت تفاصيل حياتهم اليومية في كل نظرة أو إيماءة أو تعبير يصدر عنهم. أشعة الضوء تتسلل إلى داخل العربات، لتنعكس على الناس كبارقة أمل تضيء ظُلمة الحياة اليومية.
وبينما كنت أشاهد العالم الخارجي من نوافذ العربات، تبادرت إلى ذهني أفكار كثيرة لتصوير مشاهد تبرز تاريخنا العريق. ففي خط الترام، وجدت مفتاح الحل لسعيي المستمر إلى استكشاف هويتي وتاريخ وطني العريق. وما بدأ كتجربة عائلية ممتعة بالنسبة لي تحول إلى رحلة استمرت شهراً كاملاً في عام 2019، حرصتُ فيها على توثيق مظاهر الحياة في عدد من أقدم أحياء مدينة الإسكندرية.
قمتُ بتصوير العلاقات المكانية والشخصية التي تنشأ بين الركاب أثناء السفر. وجاءت صور الجالسين على المقاعد عفويةً، كما لو أن الكاميرا مخفيةٌ عن أنظارهم، حيث نجحت في التقاط المشاهد الخارجية عبر نوافذ العربات، نظرات الركاب السريعة، أفكارهم الباطنة، والحوارات التي تدور بينهم. رسمت الصور لوحةً للحياة اليومية في الترام، لحظاتٌ عابرة يتجلى فيها مفهوم التأمل والابتعاد عن الهموم.
ومنحتني الصور القدرة على الإحساس بإيقاع حياة الركاب وتأثير الضغوطات عليهم، بوطأة الحياة اليومية على وجه كل راكب؛ فقد كانت تظهر القصص وتتلاشى مع صعود كل راكب ونزوله من العربة. وقدمت هذه الصور رؤية واقعية عن الحياة بتفاصيلها وجريانها المستمر. أتساءل، والركابُ غارقون في التفكير حول مستقبلهم ووجهتهم: “إلى متى ستصمد هذه الصناديق المتحركة في وجه تغيرات العالم من حولها؟”.

أستمد الإلهام لرؤيتي الإبداعية من أعمال الصحفي والمصور الأمريكي وليام يوجين سميث، لا سيما مقالته المصورة حول التلوث الصناعي في بلدة ميناماتا اليابانية. وأسعى جاهدة في أعمالي لمحاكاة قدرته المميزة على تسليط الضوء على حالات الظلم الاجتماعي والبيئي التي يقدمها في سردياته البصرية. ويُعد سميث واحداً من أهم المصورين الأمريكيين في تطوير المقالات التحريرية المصورة، وقد شكل مصدر إلهام رئيسياً في إنشاء مقالاتي المصورة.
وهكذا قررتُ إنشاء أولى مقالاتي المصورة والمستوحاة من أعمال سميث. واخترتُ ترام الإسكندرية موضوعاً لمقالتي، التي انطلقتُ في رحلةٍ لإعدادها تحت إشراف المصور برونو بوجلال، عضو وكالة أجينس فيو (Agence VU). وزودني بوجلال بإرشاداته خلال مختلف مراحل المشروع، وشجعني على إعداد أول قصة لي حول الترام القديم في مدينة الإسكندرية التي أعتبرها بمثابة وطني الثاني.
استخدمتُ في تنفيذ هذا المشروع كاميرا Fujifilm XT3 مع عدسة XF 23mm f/1.4 lens. وأثبتت هذه الكاميرا فعاليةً كبيرة بفضل حجمها الصغير وتصميمها الكلاسيكي المبتكر، والذي يوفر تجربة استخدام مريحة. وعلى مدى شهر كامل، حرصت على ركوب الترام في نفس الموعد من كل يوم، ما ساعدتني على بناء علاقات وثيقة مع الركاب والسائق، وأتاح لي إمكانية التقاط اللحظات الحميمية والواقعية داخل العربات.